لغة الحوار بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربيةالكاتب : د / محمد السيد الجليندمن المهم في مثل هذه الدراسة الموجزة أن نحدد المعالم الأساسية التي كانت- ولا زالت- تحكم منهج الحوار مع الآخر، الحوار بين طرفين، مسلمين كانا أو أحدهما مسلما والآخر غير مسلم، ذلك أن تحديد هذه المعالم هو الذي يوضح لنا الفوارق الأساسية بين منهجنا في الحوار مع الآخر ومنهج الآخر في الحوار معنا، كما سيوضح لنا بطريقة عملية ركائز هذا المنهج من حيث أسلوبه وطريقته، ومن حيث الأهداف والمقاصد التي نسعى إليها من وراء هذا الحوار.
ومن الثابت تاريخيا أن الحضارة الإسلامية قد احتكت منذ فجر تاريخها بحضارات مختلفة ما بين حضارة يغلب عليها الطابع الروحي كالفارسية والهندية ، وأخرى يغلب عليها الطابع المادي ، كالحضارة اليونانية والرومانية والمصرية القديمة ، فأخذت من كل الحضارات ما رأته صالحا ونافعا ، وأضافت إليها وعدلت في بعض مفاهيمها ، وتفاعلت مع كل هذه الحضارات أخذا وعطاء، تأثيرا وتأثرا، ولا ننسى أن الفلسفة الإسلامية كانت أحد الروافد التي نفد خلالها عامل التأثر بالحضارات المختلفة ما بين هندية وفارسية ويونانية.
وكانت الفلسفة الإسلامية شأنها في ذلك شأن فروع الثقافة الإسلامية الأخرى محكومة في حوارها مع الفلسفات الأخرى بمجموعة من الضوابط العامة التي شكلت معالم هذا المنهج في الأخذ عن الآخر.
ماذا نأخذ؟ وكيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ وهل الأخذ عن الآخر يقتضي بالضرورة محو الشخصية الإسلامية والذوبان في الآخر ، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلناه، أم أن الأخذ عن الآخر والتأثر به لا يلزم عنه بالضرورة إلغاء الأنا في سبيل المحافظة على الآخر، بل لابد من المحافظة على الخصوصية والاحتفاظ بالهوية والذاتية ليظل الأنا هو الأنا بخصوصيته وهويته والآخر هو الآخر بمفاهيمه وملابساته وخصوصيته.
ضوابط عامة:
لقد تميز منهج الحوار الإسلامي مع الآخر خلال تاريخ الفكر الإسلامي بمجموعة من الضوابط التي جسدت الركائز الأساسية لهذا المنهج وحكمت أسلوبه ومقاصده وأهدافه ، ومن أهم هذه الضوابط:-
1- الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها كان أحق بها، فيجب عليه أن يبادر بالتقاطها وتحصيلها والإفادة منها وشكر صاحبها عليها.
2- أن لا يعرف الحق بالرجال ، وإنما يعرف الحق ثم يعرف أهله.
وهاتان القاعدتان تلقيان الضوء على أسلوب الحوار مع الآخر وكيف نتعامل معه، فلا نهتم بصاحب الرأي بقدر ما نصرف اهتمامنا وتأملنا إلى النظر في الرأي نفسه تمحيصا وتدقيقا ، وهل هو من قبيل الحكمة فيقبله المسلم ويشكر صاحبها عليها ،أم من قبيل العبثيات فيردها على صاحبها، ولا عبرة في هذا الموقف بالشخص القائل أيا كان دينه أو ثقافته، ولونه وجنسه، مادام القول في ذاته حقا والرأي حكيما، فمحور التعامل مع الآخر هو النظر في الأقوال ،والتأمل في الآراء المجردة بصرف النظر عن مكانة أصحابها وانتمائهم الثقافي والحضاري.
3- القاعدة الثالثة في هذا المنهج تتمثل في قوله تعالى: " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف 29) وهذه القاعدة ليست قاصرة على مجال الدعوة إلى الله بالأسلوب الدعوي المباشر فقط ؛ لأن كل دعوة إلى الحق في أي مجال من مجالات المعرفة الإنسانية هي حلقة من حلقات الدعوة إلى الله، والمهم في ذلك أن نقول الحق ولا نكتمه ما دام حقا.
والساكت عن الحق شيطان أخرس ؛ لأن السكوت عن قول الحق نوع من المهادنة لأصحاب الباطل ؛ لأنه بذلك قد أفسح المجال أمام أصحاب القول بالباطل ،وفتح الباب لتعمية الناس وإضلالهم عن الحق قولا وفعلا وربما اعتقادا.
4- القاعدة الرابعة أن يكون هذا الحوار تجسيدا للمبدأ القرآني: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (النحل 125) وقد غاب عن الكثير أن هذا المبدأ ليس قاصرا على قضية الدعوة والدعاة حين قصروه على الدعوة بالمعنى الاصطلاحي، أنه مبدأ عام يشمل كل حوار ويرسم له حدوده ،ويبين ما يجوز وما لا يجوز، فإذا تخطى أسلوب الحوار هذا المبدأ القرآني وتجاوزه فقد نقله صاحبه من مجال الحوار المشروع إلى مجال آخر يرفضه الشرع شكلا وموضوعا ؛ لأن من ضروريات هذا المنهج مراعاة ظروف الناس ومخاطبتهم حسب مستواهم الفكري والثقافي، ومن الثابت تاريخيا أن بذر الحكمة في غير موضعها إضرار بها، ومنعها أهلها أضرار بهم ، فمراعاة هذه الفوارق بين الناس من لوازم هذا المنهج.
5- أن وظيفة الحوار لا تتوقف بالضرورة على هداية الطرف الآخر وقبوله للرأي الذي نراه ، فإن ذلك ليس باستطاعة البشر لأن هداية القلوب لتقبل الحق والانتفاع به والإذعان له أمر بيد الله وحده ، ولذلك فقد تكرر في القرآن الكريم أن الهداية القلبية ليست من وظيفة الرسل ، ولكن الله يهدى قلب من يشاء متى قدم بين يدي الله أسباب هذه الهداية ، وحتى يرفع عن الرسول الإحساس بالحرج في هذه القضية نجد القرآن يخاطب الرسول كثيرا بما يرفع عنه هذا الحرج، قال تعالى: " لست عليهم بمصيطر" (22 الغاشية) " إن عليك إلا البلاغ " (الشورى 48) " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء....." (القصص 56) " إنما أنت مذكر " (الغاشية 21) وهذه الآيات الكريمة وإن كانت تتصل بقضايا العقيدة إلا أنها تعم كل أشكال الحوارين المتحاورين فإن التعرف على الحق بعد بيانه ووضوحه هو المدخل الطبيعي للاعتقاد فيه ؛ لأن الحق كل لا يتجزأ وإن تعددت أطرافه وتنوعت أشكاله.
6- تحرى موقع العدل وتحقيق العدالة مع الآخرين حتى ولو كانوا أعداء لنا ؛ لأن العدل مطلب إنساني، قال تعالى " : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوس واتقوا الله " (المائدة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] فأمرت الآية بوجوب مراعاة تقوى الله في الخصوم وليس مراعاة هوى النفس وتحقيق الرغبات.
ولعل وضوح هذه الضوابط في العقلية الإسلامية جعلهم متفتحين على كل الحضارات التي احتكوا بها بدون حساسيات ولا افتعال مواقف ليس بها رصيد يؤيدها من مصادر الإسلام الأولى- الكتاب والسنة- ولذلك فقد اعتقدوا أن الأخذ عن الآخر والتأثر به قد يكون مطلبا شرعيا خاضعا لأحكام الشرع وجوبا أو ندبا ، وبنفس الدرجة قد يكون رفض ما عند الآخر والتصدي له بل ومحاربته أحيانا مطلبا شرعيا خاضعا لأحكام الشرع وجوبا أو ندبا ، ومعيار ذلك كله خاضع للضوابط العامة التي أشرنا إليها آنفا، ولعل من نافلة القول أن نشير هنا إلى أن هذه الضوابط تتسع دائرتها لتغطى كل أمور الحياة اليومية للمسلم على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة ، وكذلك تتسع دائرتها لتشمل كل العلوم النظرية والعملية معا ، فما كان منها حقا ونافعا وجب قبوله ، وأصبح ذلك مطلبا شرعيا ، حتى ولو كانت هذه العلوم قد وفدت إلينا من الأمم الكافرة التي لا تدين بديننا، لأن نظرنا في ذلك يتوجه إلى العلم في نفسه بصرف النظر عن صاحبه ؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن ؛ ولذلك يجب عليه قبولها شرعا ، سواء كان قائلها من أبناء ملتنا ويدين بديننا أم لا ، وقد أشار إلى هذا المعنى الفيلسوف المسلم ابن رشد في كتابه " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال " وفصل القول فيها المفكر المسلم ابن تيمية في كتابه "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر" فليرجع إليهما من أراد مزيدا من التفصيل في هذا الشأن.